حفل القرآن الكريم بالآيات التي تتحدّث عن ظلم النفس كقوله تعالى : ( فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) التوبة : 70 .
والسؤال هنا : كيف يظلم الإنسان نفسه ؟ ذلك أنّ الظلم نوع من الإساءة ، فكيف إذن يسيء الإنسان إلى نفسه ؟
والجواب : إنّ علّة الظلم تنجم عن أمرين هما : الغفلة والجهل .
صحيح أنّ الظلم إساءة ، وأنّ الإنسان لا يريد الإساءة لنفسه ، ولكن هذا الأمر يتحقّق إذا كان الإنسان قد شخّص المسألة ، وأنّه فعل ذلك عمداً مع معرفته ، ولو كان الأمر كذلك لما ظلم نفسه أبداً ، غير أنّ الظلم يأتي أحياناً مع تصوّره بأنّه يحسن إلى نفسه ، فإذا به يلحق الظلم بها دون أن يدرك ذلك .
فكم من ظالم لنفسه مسيء إليها وهو يتصوّر أنّه قدّم لنفسه الخير ، ولكن وبسبب جهله وعدم إدراكه تنقلب الأمور ، وإذا الخير الذي نواه هو في الحقيقة شر وظلم ، قال تعالى : ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ) الكهف : 104 .
كتب رجل إلى أحد الصحابة يطلب منه موعظة ، فكتب الصحابي في جواب رسالته : ( لا تسيء إلى أحب الخلق إليك ) ؛ ولم يفهم الرجل القصد من وراء هذه الموعظة ، إذ كيف يسيء الإنسان إلى أحب الأشياء إليه ؟ فكتب إليه الصحابي : ( نعم نفسك التي بين جنبيك تسيء إليها وتظلمها لا عن عمدٍ ولكن عن غفلة وجهالة ) .
إنّ كل الذنوب والآثام التي يرتكبها البشر هي في الحقيقة محاولات خاطئة لإيصال الخير إلى النفس ، في حين أنّ المسألة على العكس ، فهذه المحاولات الخاطئة مواقف عدائية تلحق الضرر بنفس الإنسان ؛ وإذن فعلة الظلم إنّما تنشأ عن الجهالة والغفلة .
وهناك سبب آخر مهمّ أيضاً ، فقد يرتكب الإنسان أحياناً ظلماً ويسيء إلى نفسه عمداً عن علم وإدراك ، وهذا أمر يدعو إلى التعجّب ، ومن أجل فهم هذه الظاهرة نمهّد لذلك بمقدّمة موجزة .
يقول الفلاسفة : إنّ علل هذا العالم تنقسم إلى قسمين :
الأوّل : علّة فاعلة والآخر منفعلة ، والعلّة الفاعلة هي المؤثّرة والمنفعلة هي المتأثّرة ، فالرسّام الذي يرسم لوحة ما ، هو علّة مؤثّرة ، واللوحة علّة متأثّرة ، فمن الرسّام الذوق والفكر والفن والمهارة ، ومن صفحة اللوحة القابلية على تقبّل ذلك ، ولولا وجود هاتين العلّتين ما ظهرت اللوحة إلى الوجود .
وهناك قاعدة أُخرى تقول : إنّ العلّة الفعالة المؤثّرة مستقلة دائماً عن العلّة المتأثّرة ، وإنّه لا يوجد شيء يمكن أن يكون فاعلاً ومنفعلاً في نفس الوقت .
قد يعترض البعض على هذه القاعدة قائلين : كيف لا يمكن ذلك ونحن نشاهد الطبيب يمرض ، فيقوم بعلاج نفسه ومداواتها ؟
والجواب : إنّ هناك التباساً وفهماً خاطئاً في هذه المسألة ، عندما يتصوّر المرء أنّ الطبيب هذا يقوم بدور الفاعل والمنفعل ، ذلك أنّ الطبيب إنسان ، والإنسان يضم جوانب مختلفة ، فهو من جهة جسم يتعرّض للمرض ، وفكر وعلم وطبابة يعالج بها بدنه من جهة أخرى ، وإذن فالفاعل والمؤثّر هنا غير المنفعل والمتأثّر .
والسؤال الذي يثار هنا هو : كيف يظلم الإنسان نفسه فيصبح ظالماً ومظلوماً أيضاً ؟ إنّ الحالة هنا تشبه إلى حدّ ما حالة الطبيب ، ذلك أنّ الإنسان يتألّف من عقل وشهوة ، فشهوته هنا تظلم عقله وتسحق إرادته ، وتضرب حقّه عرض الجدار ، وإذن فإنّ إطاعة الشهوة والانقياد لها ظلم للعقل والضمير والوجدان .
فمثلاً يكذب البائع فيزيد في قيمة بضاعته ، ويخدع المشتري فيكسب من وراء كذبه منفعة مالية يشتري بها ثوباً أو رغيفاً من الخبز ، ولكنّه في نفس الوقت يكون قد وجّه صفعة إلى وجدانه وضميره ، وذلك أنّهما لا يسوّغان الكذب وخداع الآخرين .
إنّ الكذب يوجّه ضربة قوية للضمير ويضعفه ، وإذن فهو يظلم نفسه ، كذلك الظالم فالذي يظلم الآخرين يظلم نفسه أيضاً ، ذلك أن قلبه يقسو وتغزوه الظلمة ويملؤه التصدّع .
ولذا فإنّ القرآن ينعتهم دائماً بأنّهم ( ظالمون لأنفسهم ) ، فهم إمّا يظلمون أنفسهم عن جهل وغفلة ، أو عن طغيان يسحق إرادة العقل ، ويدمّر إنسانية الإنسان . منقول
منقول .