فتحية طالب عضو نشيط
عدد المساهمات : 37 تاريخ التسجيل : 26/11/2013
| موضوع: من الأمراض النفسية : انفصام الشخصية الخميس أكتوبر 23, 2014 10:53 am | |
| |
|
من الأمراض النفسية الشائعة: انفصام الشخصية |
انفصام الشخصية ليس من الأمراض النادرة· إذ من المحتمل أن يصاب بهذا المرض في وقت ما من حياته واحد من كل مئة شخص· وعادة يظهر هذا المرض في طور المراهقة ومطلع الشباب، ويصيب الذكور والإناث على السواء، دون أن تكون للمرض حدود جغرافية ـ بمعنى أنه يحدث في كل المجتمعات البشرية· ما هو انفصام الشخصية؟! ما أسباب المرض؟ وما أعراضه وعلاماته؟ وكيف يمكن علاجه؟ تصنيف المرض في >الطب النفسي< Psychiatry، كما في >علم النفس< Psychology، فلسفات ونظريات تبدو مقبولة أحياناً، ومثيرة للجدل أحياناً أخرى· من ذلك تعريف >الإنسان السوي< و>السلوك السوي< الذي على أساسه يمكن تحديد ما هو غير سوي· ومن دون الدخول في تفاصيل (ومتاهات) تلك الفلسفات والنظريات، فإننا نكتفي بالإشارة إلى أن التعريف المقبول للسلوك السوي، فالسلوك السوي هو السلوك السائد في مجتمع ما وفقاً لأعراف وعادات وتقاليد وثقافة ذلك المجتمع بعينه· والإنسان السوي هو الإنسان الذي يتفق تصرفه وسلوكه اليومي مع السلوك الاجتماعي المتعارف عليه في المجتمع· توضيحاً لذلك، فإن تعاطي المشروبات الكحولية في الغرب يعتبر سلوكاً اجتماعياً مألوفاً بحيث لا يكون من يشرب الكحول موضع انتقاد أو سخرية أو استهزاء، بينما يكون هذا السلوك مستهجناً تماماً (وغير سوي) في المجتمعات المسلمة· كذلك فإن من يتزوج فتاة في الخامسة عشرة من عمرها يعد إنساناً غير سوي في الغرب، ولا يعد كذلك في قرية عربية! >التعريفات المذكورة غير دقيقة علمياً، وغير ممكنة التطبيق عملياً في كل الأحوال ـ وهي لذلك مثار جدل· بيد أننا ذكرنا ذلك لأهميته في توضيح التعبيرات التي سوف تلي في سياق الكلام<· يفصل الطب النفسي بين نوعين رئيسين من العلل النفسية، يطلق على أحدهما اسم >العصاب< (بضم العين وفتح الصاد) neuroses، بينما يطلق على النوع الآخر اسم >الذهان< (بضم الذال المشددة) Psychoses، والفاصل الرئيسي بين الطائفتين هو سلامة العقل في فئة >العصاب<، التي تشمل أمراضاً مثل الاكتئاب والقلق والحصر النفسي، واضطراب العقل في فئة أمراض >الذُّهان<· الاضطراب العقلي، أو اختلال وظائف العقل، قد يكون >عضوياً< organic ـ بمعنى وجود علة عضوية في المخ كورم مثلا· وقد يكون اختلال عمل العقل >وظيفياً< functional Psychosis ـ أي من الأمراض التي تضطرب فيها وظيفة العقل دون وجود علة عضوية في المخ · الأعراض والعلامات قد تظهر أعراض انفصام الشخصية بصورة حادة، بحيث يتكون انطباع لدى المحيطين بالمريض أنه أصيب بالجنون! وقد تكون الأعراض معتدلة في مجموعها بحيث لا يذهب الظن إلى وجود مرض، وإنما يقتصر الأمر على وصف المصاب بأنه >شاذ< أو >غريب الأطوار<· وقد يكون التغير في سلوك المريض غير ملحوظ إلا لدى (أفراد أسرة المريض) الذين ربما يعتقدون أن المصاب يفتعل تصرفات ومواقف معينة للهروب من الواجبات الأسرية أو المدرسية! كما تختلف حدة الأعراض من مريض إلى آخر، كذلك يختلف العرض البارز >أو أهم العلامات< من مريض إلى آخر· فبينما يكون اضطراب التفكير واضحاً عند مريض ما، تكون الهلوسة واضحة عند مريض آخر، ويكون اضطراب العواطف أوضح عند ثالث، وهكذا· أهم أعراض وعلامات انفصام الشخصية ما يلي: اضطراب التفكير هذا من أكثر الأعراض شيوعاً، وهو أول ما يلاحظه أفراد الأسرة على المريض من تغير· ويتراوح اضطراب التفكير بين فقدان القدرة على تتبع السرد المنطقي في الحديث، إلى شعور المريض بأن أفكاراً معينة تزرع في رأسه أو تفرض عليه من قبل قوى خارجية! بدءاً إذا كانت أعراض المرض معتدلة، يبدو كلام المريض غير منطقي، وأحياناً بلا معنى، وأحياناً أخرى غريباً تماماً أو خارجاً على المألوف· وقد يخرج المريض في أثناء الكلام عن موضوع الحديث إلى موضوع آخر لا يمت له بصلة· فإذا أعاده السامع إلى موضوع الحديث، فلا يلبث المريض إلا قليلاً ثم يقفز إلى موضوع جديد دون رابطة منطقية أو علاقة سرد بين الموضوعين! في الحالات الحادة، أو عندما تتقدم حال المريض في المرض، حيث يأخذ اضطراب التفكير صورة ما يسمى >غرس الأفكار وإذاعتها<· إذ يكون المريض مقتنعاً تماماً أن قوى خارجية، أو كائنات غريبة، تملي عليه أفكاره! ومن الصعوبة بمكان إقناع المريض بغير ذلك· وقد يستمع المريض لرأي أو لخبر عبر المذياع أو الإذاعة المرئية، فيعتقد أن الرأي أو الخبر ليس إلا فكرة سرقت من رأسه! من صور اضطراب التفكير كذلك ما يسمى >تطاير الأفكار<· فقد يتوقف المريض فجأة في أثناء الحديث بسبب اختفاء أو تطاير الأفكار من رأسه· وقد يطول به الصمت في محاولة للإمساك بخيط أفكاره دون أن ينجح في ذلك· وقد يدفع تطاير الأفكار بالمريض إلى أن يلوم الآخرين لأنهم يسرقون أو يخطفون الأفكار من رأسه· وقد يقع اللوم على أفراد الأسرة أو على الجيران أو على الشرطة، أو غير ذلك! الهلوسة والأوهام يجمح تخيل مريض انفصام الشخصية إلى تصور وجود أشخاص وسماع أصوات لا وجود لها في الحقيقة· فقد يتصور مريض الانفصام وجود أشخاص في >خزانة< ملابسه أو على سطح بيته >أو ما أشبه ذلك من المواقع غير المألوفة لدى الناس<· وهؤلاء الأشخاص >لا وجود لهم في الحقيقة< يزعم أنه يتكلمون مع المريض، وهو بدوره يجيب عليهم بصوت مسموع! لذلك فقد تفاجأ أسرة المريض وهي على مائدة الطعام ـ مثلاً ـ بأحد أفرادها يصيح بألفاظ ليست إلا رد المريض على الأصوات التي استمع إليها من شخوصه المتخيلة<· وقد تتطور أمور المريض، فيتوهم أن الأشخاص (الذين يصنعهم خياله) الذين يتكلمون إليه، يتعقبونه أو يطاردونه أو يسبونه، فيصرخ فيهم ويرد على شتائمهم بصوت مسموع! وقد تذهب الأوهام بالمريض إلى أبعد من ذلك، فيعتقد اعتقاداً جازماً أن رجال الشرطة ـ مثلاً ـ ينصبون له كميناً للإمساك به وضربه، فلا يخرج من بيته أبداً حتى لا يعطيهم فرصة الإمساك به! وقد يتوهم ـ مثلاً ـ أن قطة الجيران ليست إلا وحشاً كاسراً متنكراً على هيئة قطة، فلا يذهب لزيارة الجيران أبداً! اختلاط العواطف كما يضطرب التفكير، تضطرب الانفعالات العاطفية، فتصبح المشاعر باردة فاترة تماماً، أو قد تكون متأججة متسمة بطبيعة عدوانية! بغير تفسير، ودون مقدمات، وهنا تفاجأ الأسرة أن المريض صار فاتر الشعور نحوها، بحيث لم يعد يبدي اهتماماً بأحد أو بشيء، أو أنه صار انفعالياً سريع الغضب· وقد ينزوي المريض في غرفته لساعات طويلة، يخلو أثناءها إلى أوهامه ويتكلم مع شخوص خياله· وقد ينفق الساعات الطوال نائماً غير مبال بشيء أو بأحد· أو قد يثير كثيراً من الضجة والصخب متوهماً أنه في عراك مع أحد الأشخاص (الوهميين) الذي جاء لقتله أو للقبض عليه! هكذا، يصبح سلوك المريض العاطفي غريباً، غير سوي، ولا يمكن التنبؤ به· وقد لا تكتشف الأسرة عند هذا الحد أن ولدها مريض ـ خصوصاً إذا كان المستوى الثقافي للأسرة منخفضاً· ففي هذه الأحوال، قد تذهب ظنون الأسرة إلى أن ولدها به مس من جن، أو أنه يفتعل ذلك للتهرب من المدرسة أو العمل· وأكثر صور الاضطراب العاطفي وضوحاً هو ما يسمى اختلاط أوتضارب العواطف، وذلك حين يكون الانفعال العاطفي في موقف ما معاكساً تماماً لما هو متوقع· مثال ذلك، أن يغرق المريض في الضحك عندما ينتهي إليه نبأة وفاة، أو خبر حدوث كارثة ذهب ضحيتها عشرات الناس! أو أن يبكي المريض بكاءً مراً إذا سمع مثلاً أن فريق بلاده حاز كأس التفوق في لعبة معينة! الاختلاط العاطفي والاضطراب الفكري هما سبب اعتقاد جمهور الناس أن المريض مصاب بالجنون· وعند هذا يتدخل الأقارب والأصدقاء، وأحياناً الشرطة، فيؤخذ المريض قسرا إلى طبيب· أسباب المرض وخط سيره أسباب انفصام الشخصية غير معروفة على وجه اليقين· وتذهب محاولات التفسير ـ المبنية على الخبرة الطبية والأبحاث ـ إلى أن الوراثة قد تلعب دوراً في هذا المرض، وقد تلعب البيئة دوراً متمماً أو مكملاً· دليل ذلك أن واحداً من كل عشرة أشخاص من ذرية المريض يصاب بمرض انفصام الشخصية في وقت ما من حياته· وتكون الفرصة مهيأة لحدوث المرض إذا كانت ضغوط الحياة كثيرة ومتعددة بحيث تكون وراء نطاق احتمال الشخص المهيأ وراثياً للمرض· على الرغم مما في هذه الملاحظات من صحة، إلا أنها ليست مطلقة· ففي حالات كثيرة لا يكشف التاريخ المرضي عن وجود أي إصابة بالمرض في أسرة مريض انفصام الشخصية· كما أن عدداً من المصابين بالمرض، تزوجوا ـ بعد العلاج ـ وأنجبوا ذرية لم يظهر عليها المرض· هناك تفسير ثالث يقول إن شخصية الإنسان هي التي تهيئه للإصابة بالمرض· فبعض الناس لا يحتملون ضغوط الحياة ولا يستطيعون الصمود لمحنها الكثيرة· ومثل هذه الشخصيات تكون عرضة للإصابة بانفصام الشخصية· أيا ما كان الأمر، فلا تزال أسباب هذا المرض موضع بحث ودراسة· ولعل الحقيقة اليقينية المتعلقة بانفصام الشخصية هي حدوث اضطراب خطير في كيمياء المخ· وهذا الخلل الكيمياوي هو المسؤول عن ظهور جميع أعراض المرض· إلا أن هذه الحقيقة اليقينية لا تحل كثيراً من لغز انفصام الشخصية! ذلك أن خط سير المرض لا يتبع نمطاً واحداً يمكن التنبؤ به أو التعامل معه! فبعض المرضى يصاب بنوبة حادة تستمر أسابيع عدة، لتختفي بعدها أعراض المرض تماماً ولا تعود للظهور أبداً· وفي الطرف المقابل يتحول المرض عند بعضهم الآخر إلى صورة مزمنة تلازم المريض سنوات عديدة من عمره! وفي أحيان ثالثة يصاب المريض بنوبة حادة كل عدة سنوات، مع ظهور أنماط جديدة من السلوك الشاذ مع كل نوبة! وقد يعود المرض إلى الظهور بعد أسابيع قليلة من انتهاء فترة العلاج! التشخيص والعلاج مريض انفصام الشخصية لا يشعر بوطأة المرض أبداً، بل يصرُّ على أنه غير مريض! لهذا لا يذهب المصاب بانفصام الشخصية إلى الطبيب من تلقاء نفسه أبداً ـ على العكس من مرضى >العصاب< (المصابين بالاكتئاب أو القلق) الذين يشعرون بتغير طبيعتهم ويطلبون مشورة طبية من تلقاء أنفسهم· قد تكون ملاحظات الأسرة حول السلوك الغريب لمريض انفصام الشخصية هي الدافع إلى زيارة الطبيب· وقد يكون عجز الأسرة عن احتمال المتاعب التي يسببها المريض هو الباعث على الشكوى إلى الطبيب· وأحياناً يؤدي سلوك المريض العدواني أو تصرفاته الغريبة إلى وقوعه في أيدي الشرطة التي تقتاده إلى مصحة أو مستشفى للأمراض النفسية· ليس من الصعب على المتخصصين في الطب النفسي تشخيص انفصام الشخصية· فعلامات المرض وأعراضه مميزة له· لكن قد يحتاج الأمر في بعض الحالات إلى التمييز بين الجنون وانفصام الشخصية والاكتئاب المزمن· يعين على التمييز ما يلي: ü المريض بالاكتئاب دائماً يلوم نفسه ويوبخها، وقد يشعر بالتقصير وبأنه لا يستحق الحياة· بينما لا يلوم المصاب بانفصام الشخصية نفسه أبداً، بل دائماً يلوم الآخرين ويعتبرهم سبب مشكلاته وهمومه· ü المصاب بانفصام الشخصية قد يثوب إلى رشده أحياناً، فيشعر بالمتاعب والآلام التي يسببها لذويه، مما يصيبه بالبؤس والاكتئاب· لكن لا يثوب المجنون إلى رشده· ü في حالات الجنون، تكشف الاختبارات >الفحوصات< الطبية عن علة عضوية في المخ، مثل ضمور المخ أو وجود ورم فيه· بينما لا توجد أي علة عضوية في المخ في حال انفصام الشخصية· >انفصام الشخصية مرض عقلي ولكنه ليس جنوناً<· تحسَّن علاج انفصام الشخصية في السنوات الأخيرة تحسناً ملحوظاً، بفضل فهم أوسع لدور العقاقير في تصحيح الخلل في كيمياء المخ· وفي الحالات المعتدلة يمكن علاج المريض في البيت· أما الحالات الحادة فتحتاج إلى بضعة أسابيع من العلاج في المستشفى قبل أن يعود المريض إلى بيته لاستكمال العلاج· يمكن تعاطي العقاقير التي هي على هيئة أقراص أو حقن، تبعاً لحال المرض وتعاونه في تناول الدواء· وعادة يستمر تعاطي الدواء لأشهر عدة، على الرغم من أن معظم المرضى يعودون إلى طبيعتهم بعد أسابيع قليلة من العلاج· وسبب ذلك هو الحيلولة دون حدوث انتكاسة عند وقف العلاج في وقت مبكر· من رحمة الله بهؤلاء المرضى، أن المريض بعد شفائه لا يذكر شيئاً عن علته وعن سلوكه الغريب وعن المتاعب الكثيرة التي سببها لأهله· وكلما كان أهل المريض متعاونين كلما عجل ذلك بفرصة الشفاء التام· |
|
|
| |
|